الفصل الأول : التفكير والتخطيط
قبل أن يفكِّر المرء ويُخطٍّط لأهدافٍ يُراد تحقيقها ، وغايات يُطلَب بلوغها ؛ هناك أمران لابدّ منهما ، ولا مندوحة للراغب عنهما ، وهما :
أولاً : الاستعانة بالله والتوكل عليه :
فلا بد للمرء أن يستحضر في ذهنه ذلك دائماً ، وفي كل خطوةٍ يخطوها ينبغي أن يجعل ذلك نُصْب عينيه، إذ الله هو المعين على كل مقصد ، ولا حول ولا قوة إلا به ، وهو المستعان ، فاستعن بالله؛ لأنه هو الذي يمنحك القوة لتبدأ ، وتوكل عليه ؛ لأنه هو الذي يهديك وييسّر لك السبل ، اطلب دائماً العون منه والتوفيق ، وأَظْهِر فقرك وحاجتك له في كل الأحوال تكن أغنى الناس وأقواهم ، فمن توكل على غير الله وُكِل إليه ، وكانت نهايته إلى خسار ، ولو حصَّل شيئاً من النجاح في هذه الدنيا.
ثم ابذل الأسباب المعينة على بلوغ ذلك الطريق ، واعلم أنه ليس هناك سبب يستقل بإيجاد المطلوب ، بل لابدّ من أمر خالق الأسباب ، فالجأ إليه ، وتوكّل عليه تأوِ إلى ركنٍ شديد .
قال ابن القيم رحمه الله :
(شهدتُ شيخ الإسلام ـ قدَّس الله روحه ـ إذا أَعْيَتْه المسائل واستصعبتْ عليه : فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة بالله واللَّجَأ إليه واسْتِنْـزَال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته؛ فقلَّما يَلْبث المَدَدُ الإلهي أن يتتابع عليه مَدَّاً ، وتَزْدَلِفُ الفتوحات الإلهية إليه بأيَّتِهِنَّ يَبْدَأ) .
إذا لم يكنْ عونٌ من اللهِ للفتى
فأولُ ما يَجْني عليه اجتَهادُهُ
ثانياً : الإيمان والرضا بالقضاء والقدر :
بعد إتيانك بالأمر السابق ، وبعد أن بذلتَ الجَهْد ، وعملتَ بالأسباب ، فلا تحزن إن فشلتَ أو لم يتحقق هدفك ، بل ارْضَ بما قَسَم الله لك ، واعلم أن الخيرة فيما اختاره الله ، واعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصحف .
• ثم هاهنا مبحثان :
المبحث الأول : في التفكير :
هناك أمور لابد من استشعارها حتى يصبح التفكير ناجحاً ويُؤتي ثماره ، وهي على النحو التالي :
• أولاً : أن يعلم الإنسان أنَّ من أعظم نعم الله على العبد أن وهبه عقلاً يفكِّر به ، ويميّز به ، فبالتفكير يزداد يقين العبد ، وبالتفكير يعرف العبد آيات الله في الكون ، وفي نفسه.
• ثانياً : أن هذا العقل إنما يستفيد منه حق الاستفادة مَن كان يريد أن يصنع الحياة ، لا مَن يريد أن يكون متفرِّجاً فقط على ما يحدث في الحياة .
• ثالثاً : كثرة التساؤل عن ما يراد تحقيقه مطلب مهم، إذ الأسئلة تستثير الأفكار ، وتوقظها وتجعلها في حالة تطور وتكاثر لا يتوقف .
• رابعاً : ابدأ العمل من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدءوا ، فإن مَنْ يَسِيْر في خُطى الآخرين لا يَتْرُك أثراً مهما طال مسيره ، ثم استغل الأفكار الإبداعية.
فهاهو الإمام البخاري ـ يرحمه الله ـ يستغلُّ فكرة عابرة خلَّدتْ ذكره ، ورفعتْ منـزلته رحمه الله ، وذلك لما ألّف كتابه : [ الجامع الصحيح ] . قال البخاري ـ رحمه الله ـ : "كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا :لو جمعتم كتاباً مختصراً في الصحيح لسنن النبي ، وكانت الكتب قبل ذلك تَجْمَع الصحيح والضعيف ، فوقع ذلك في قلبي فأخذتُ في جَمْع هذا الكتاب ـ يعني : كتاب صحيح البخاري ـ" .
• خامساً : التفكير هو مبدأ العمل ، ولا يستطيع أحدٌ أن يعمل دون أن يُفكِّر ، وبقدر سمو هذا التفكير تَسْمو الأعمال . ولا تكون الأعمال رَتِيْبَة مملّة لا تجديد ولا إبداع فيها : إلا بإهمال التفكير وتعطيل عمل الذهن ، والانشغال بالعمل دون تفكير أو رغبة في التطوير .
• سادساً : لا تحتقر أيَّ فكرة مهما بدأ أنها سَطْحية لأول وَهْلَة ، فقد تكون عند التَّمْحِيص فكرة قيَّمة ، أو قد تكون مبدأ لفكرة ذات شأن .
• سابعاً : حاول الإبداع ، والارتقاء بالعمل إلى الأفضل .
واعلم أن هناك أخطاء تتعلق بالإبداع وهي كما يلي :
أولها : الظن أن الفكرة الإبداعية لابد أن تكون جديدة في أصلها .
وهذا غير صحيح ، بل الأفكار الجديدة تكون بالتعامل مع الأفكار القديمة ، وذلك يكون بإحدى طرق ، منها :
1ـ الاستعارة ، وذلك بأن يَسْتعير الإنسانُ فكرة مُطَبَّقة في مجال من المجالات ويستخدمها في مجال جديد تكون فيه نافعة ، وتَقْضي على مشكلة كانت موجودة من قبل في هذا المجال.
2ـ الإضافة ، وذلك بأن يأتي الشخص إلى فكرة مطبّقة لكن فيها نقص ، فيأتي فيُكَمِّلها حتى تكثر الفائدة ويزداد نجاح العمل.
3ـ الجمع والمزج ، وذلك بأن يأتي المرء فَيجْمع بين فكرتين موجودتين ويَمْزِج بينهما ، فَيخْرج بفكرة مركّبة ثالثة تحل كثيراً من الاشكالات .
4ـ التعديل ، وذلك بأن يأتي المرء لفكرة قائمة ، فيعدِّل فيها ، ويهذبها بحيث تناسب وضعاً آخر .
وثانيها : الظن بأن العلماء فقط هم الذين يمكنهم الإتيان بشيء جديد .
وهذا غير صحيح ، إذ لا يشترط في الفكرة الإبداعية أن تكون علمية بحتة ، بل قد تكون عاديّة، ومن السهولة بمكان .
وثالثها : الظن بأن الأذكياء والموهوبين هم الذين يمكنهم الإبداع فقط .
وليس هذا مطلقاً ؛ بل الإنسان العادي يستطيع بالتعلم والصبر أن يمارس التفكير الإبداعي،وأن يستفيد من قدراته العقلية العادية .
ورابعها : الظن بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، وما ترك الأول للآخر شيئاً .
وهذا غير صحيح ، بل إن فرصة المتأخر في الإبداع والابتكار أكبر من فرصة المتقدمين ، وذلك نتيجة لتشعُّب حاجات الناس ، وتنوُّع وسائل الملاحظة والتجريب وأساليب التفكير ، فكل فكرة تفتح مجالاً لأفكار ، وكل حاجة تدعو إلى ابتكار .
• ثامناً : اجعل تفكيرك إبداعيّا :
والتفكير الإبداعي هو التفكير الذي يسعى إلى حل المشكلات ، والإجابة عن التساؤلات بطريقة بديعة مبتكرة .
• تاسعاً : حوِّل الأفكار إلى حقائق :
فإن الأفكار مهما كانت بديعة ، ومهما كانت عظيمة : فإنها لا تُنَال قيمتها الحقيقية إلا إذا انتقلتْ من حَيِّز الفكر المجرَّد إلى حَيِّز الواقع المَلْمُوْس ، حيث تُصْبح حقيقة يَسْتَفيد منها من يَحْتَاجها ، فالأفكار لا تُرَاد لنفسها ، بل لما يَنْتُج عنها من الثمار .
المبحث الثاني : في التخطيط :
التخطيط يدور على ثلاثة محاور :
أولاً : الهدف .
ثانياً : الإطار الزمني أو الوقت (المدة) .
ثالثاً : الوسائل .
وسيكون الكلام عن هذا المبحث من خلال ثلاثة جوانب :
الأول : وضع الأهداف :
وضع الهدف هو البداية الصحيحة للطريق ، فالسير دون هدف مَضْيَعَة للوقت والجهد،بل ربما يصبح المرء كالمُنْبتِّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .
ثم هناك أمورٌ لابد من مراعاتها عند وضع الأهداف ، وهي كالتالي :
1ـ تحديد الهدف بدقة ووضوح ، وهذا الأمر مهم جداً في تحقيق أي إنجاز .
2ـ كون الهدف واقعياً وملائماً لقدرات صاحبه .
3ـ أن لا يكون الهدف سهلاً جداً بحيث لا يشكِّل تحدِّياً لصاحبه .
4ـ تجزئة الهدف إذا كان كبيراً : إلى أهداف جزئية مرحليّة .
5ـ تحديد وقت معين لتحقيق هذا الهدف ، فلا بد أن يُقرَّر متى يُبْدَأ ؟ ومتى يُنْتَهى ؟
6ـ كتابة ذلك كله حتى يَتَذَكَّره المرء دوماً .
ولْيَعْلَم المرء أن أول خطوة في طريق النجاح : هي أن يحدِّد الإنسان ماذا يريد ، ثم يَسْعى في أن تَنَاَل الأهداف التي يُراد تحقيقها : النصيب الأكبر من الوقت .
الثاني : التخطيط :
النقطة التي تَلِي وَضْع الأهداف هي : وضع المُخَطَّط المتوقَّع للوصول إلى ذلك الهدف .
ولكي يتم التخطيط لابد من أمورٍ يجب مراعاتها :
أولاً : تقسيم العمل إلى مراحل .
ثانياً : تحديد خطوات كل مرحلة .
ثالثاً : إعطاء كلِّ خطوة وقتَ بداية ، ووقتَ نـهايةٍ .
رابعاً : كتابة الخطة ومراحل تنفيذها ، خاصة في الأهداف الطويلة ليَسْهُل تقويم تَنْفِيذ الخطة .
خامساً : البُعْد عن التعقيد والمثالية في وضع الخطة ، بل تكون الخطة واضحة سهلة .
الثالث : تنظيم الوقت :
للوقت أهمية كبرى ، ومزيَّة عظمى ، فهو غنيمة لمن أحسن استغلاله ، ومَرْبَح لمن أجاد اغتنامه ، بل الوقت هو الحياة .
قال ابن عقيل يرحمه الله : (إنّ أجلّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت ، فهو غَنِيْمَة تُنْتَهَز فيها الفُرَص ، فالتكاليف كثيرة ، والأوقات خَاطِفة) .
ولابد للوقت حتى يُسْتغلَّ : من تنظيم ، فالخطوة التي تلي التخطيط هي : توفير الوقت اللازم للتنفيذ ، وهذه تكون بأمرين :
أولاً : مراعاة حال الشخص وظروفه عند وضع الخطة .
ثانياً : المحافظة على ما خُصِّص من وقت لتنفيذ هذا العمل مِنْ أَنْ تَطْغى عليه أعمال أخرى .
فالانضباط الذاتي أساس تنظيم الوقت ، بل إنّ أعظم تخطيط للوقت لا يساوي شيئاً ولا يُجْدِي إذا لم يكن من يُنَفِّذه منضبطاً ذاتياً ، ومتقيِّداً بتَخْطِيطه .
وشكاية كثير من الناس الجادّين : من ضَيْق الوقت أو عدم توفُّره هو في الحقيقة من عدم التنظيم، فالعمل الذي يسْتَغْرِق لإنهائه : عشر دقائق يُصْرَف في إنجازه : ساعة كاملة ، وما ذلك إلا لسوء التخطيط أو عدمه ، أو التسويف أو غير ذلك .
فَلْيتخلَّص المرء من مُضيِّعات الوقت ، ولْيُحَاوِل استخدام وقته بشكل فعَّال ، بحيث تُقلَّص نسبة الوقت المصروف دون فائدة ، وذلك إنما يكون بتنظيم الوقت .
وإليك قواعد في تنظيم الوقت :
أولاً : تحديد الأولويات : فلا بد للمرء من تحديدها حتى يُقدِّم الأهم على المهم ، والمهم على غير المهم ، وحتى يحذر من الخَلْط بين المهم والعاجل فلا يُقدِّم العاجل غير المهم على المهم العاجل وغير العاجل ؛ لأن هذا يُرْبِك ما سبق أنْ خُطِّط له، ويؤجِّل إتمام كثير من الأشياء المهمة .
وليتذكر المرء أنّ اختيار العمل الأفضل أهم من عمل أي شيءٍ فقط ، فلا يخلط المرء بين الحـركة والتقدُّم ، فالحركة تكون في اتجاهات مختلفة أو متضادة ، بل قد تكون في المكان نفسه ، أما التقدم فإنه يكون دائماً إلى الأمام نحو الهدف .
ثانياً : تحديد مواعيد الانتهاء من الأعمال : حيث إن تحديد وقت الانتهاء والالتزام به تَحَدٍ يَشْحذ الذهن ، ويُعِيْن على التركيز ، بل يهيئ الجسم للانصراف نحو العمل المطلوب.
وليُعْلَم أنه يجب عند تحديد المواعيد النهائية أن يكون الإنسان واقعيّاً ودقيقاً في تقديره ، بحيث لا يكون الوقت قصيراً جداً فيُصَاب المرء بالإرهاق والإحباط ، ولا يكون طويلاً ، فيُصاب بالفتور والتواني.
ولا بأس بعد تحديد الموعد بأن يُعاد تحديد موعد بديل إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، لكن لا تُتْرَك النهاية دون موعِدٍ مقدَّر .
ثالثاً : العمل بكل وسيلة تساعد في حفظ الوقت ومن الوسائل المساعدة لحفظ الوقت ما يلي :
1ـ حسن التعامل مع الهاتف .
2ـ تحديد مواعيد للزيارات الروتينية،وينبغي أن تكون محصورة بين عملين معروفين، كصلاة المغرب والعشاء مثلاً .
3ـ التخطيط للخروج من المنـزل بحيث يقضي المرء أكبر قدر ممكن من الأعمال في كل مرة يخرج فيها ، ولا يجعل لكل عمل خروجاً مستقلاً .
4ـ تفويض ما يمكن تفويضه من الأعمال ، ولو كَلَّفَ ذلك بعض المال،ولْيتذكر المرء أن الوقت لمن يحتاجه ويحسن استغلاله : أغلى من المال .
كان الشيخ جمال الدين القاسمي ـ رحمه الله ـ يتحسَّر عندما يَمُرُّ أمام مقاهي دمشق ، ويرى الناس يمضون أوقاتهم في لهو وثرثرة ، ويَتَمَنَّى لو استطاع شراء أوقاتهم منهم .
5ـ تحديد مواعيد الالتقاء مع الآخرين بدقة ، وعدم الرضا بالمواعيد المطاطة .
6ـ إدارة الاجتماعات بفعاليّة ، واستثمارها جيداً .
ولْيَحْرص المرء على اقتناص دقائق الوقت الضائعة ، ولْيغتنم أوقات الانتظار ، بل يغتنم كل دقيقة في هذه الحياة .
كان أبو يوسف ـ رحمه الله ـ في مرض الموت ، وعنده أحد تلاميذه ، وقد أُغمي عليه ، فلما أفاق قال له : يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا ؟ فقال إبراهيم : في مثل هذه الحال! قال: نعم ، لا بأس لعله ينجو ناج ! فتباحثا قليلاً ، قال إبراهيم : فلما خرجتُ من عنده سمعتُ الصُّراخ عليه وإذا هو قد مات.
وكان سليم الرازي ـ رحمه الله ـ إذا كان يكتب فحفي عليه القلم ، وأخذ في بريه : حرَّك شفتيه بالقراءة .
وقال بعض السلف لأصحابه وقد كانوا عنده : (إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعلّ أحدكم يقرأ القرآن في طريقه ، ومتى اجتمعتم تَحَدَّثْتُم) .
وقال ابن الجوزي يرحمه الله : (ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه ، وقدر وقته ، فلا يُضيع منه لحظة في غير قُرْبة ، ويُقدِّم الأفضل فالأفضل من القول والعمل) .
إنَّ ساعة تُنْتَزع كل يوم من أوقات اللهو ، وتُستعَمل فيما يفيد : تُمكِّن كل امرئٍ ذي مقدرة عقلية عادية أن يتضلَّع في علم بتمامه .
قال ابن النحاس :
اليومَ شيءٌ وغداً مثلُهُ
يُحصِّل المرءُ بـها حِكْمةً
مِنْ نُخَبِ العلمِ التي تُلتَقَطْ
وإنما السيلُ اجتماعُ النُقَطْ